عاجلکویت

مُضناك جَفَاه مرقَدُهُ .. بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم

  • أمير الشعراء أحمد شوقي نظم هذه القصيدة معارضاً للشاعر الحصري القيرواني والفنان محمد عبدالوهاب لحّنها وغنّاها فمنحها مزيداً من الانتشار بين الناس
  • مقام شوقي بالأندلس زمناً أتاح له مجاراة قصائد شعراء تغنوا ببلادهم وجمالها فعارض قصيدة ابن زيدون «أضحى التنائي» بأبيات بديعة تجسد حزنه لفراق مصر
  • جارى «سينية البحتري» مبدياً ألمه لحرمانه من وطنه وحرقة قلبه على ما حلّ به ود.زكي مبارك عرض قصيدتي الحصري وشوقي ووازن بينهما من حيث الصياغة والمعاني والأفكار
     

عنوان هذا المقال مستمد من مطلع قصيدة قالها أمير الشعراء أحمد شوقي، ويأتي بعد هذا الشطر قوله:

وبكاه ورحَّم عوَّده

والقصيدة غزلية طويلة أنشأها شوقي معارضا لقصيدة أخرى شبيهة بها قالها منذ زمن بعيد شاعر سيأتي ذكره فيما بعد، وكان مطلع قصيدة هذا الشاعر:

يا ليل الصبُّ متى غدُه

أقـيام الســاعة مـوعـده

وقد اشتهرت هذه القصيدة حتى لفتت أنظار كثيرين من الشعراء، ومنهم أحمد شوقي الذي وجد نفسه منساقا إلى قول قصيدته التي أشرنا إليها آنفا.

وللقصيدتين صلة بالأندلس، ذلك لأن أولاهما قيلت حين كان الشاعر الحصري القيرواني قد انتقل إلى الأندلس، والثانية هي التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي حين كان يعيش – منفيا – في إسبانيا التي هي في تاريخنا: الأندلس.

اتجه المسلمون في فتوحاتهم الهادفة إلى نشر الدين الإسلامي إلى جهات المغرب، وكان من أبرز قادة هذا الفتح التابعي الجليل عقبة بن نافع الفهري المولود في سنة 622م، وكان والياً على أفريقيا بعد أن ثبت أمر الإسلام هناك، وقد استمر إلى ما بعد زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان في سنة 679م. وهو منشئ مدينة القيروان. وكان بطلا شجاعا حازما ذا خلق رفيع.

وكان فتح المغرب مفتاحا لفتح الأندلس. وقد عرف التاريخ العربي هناك مرحلتين مهمتين، أولاهما: فتحها على يد القائد طارق بن زياد الذي عبر إليها من المغرب باتجاه الجبل المعروف باسم جبل طارق إلى يومنا هذا، وهو مقابل لبلدة «طنجة» المغربية. وثانية المرحلتين تمت عندما قام عبدالرحمن الداخل (صقر قريش) بتخطي كل العقبات التي وضعت في طريقه إثر سقوط الخلافة الأموية، فعبر إلى الأندلس، وأنشأ بها دولة أموية كان لها ذكر ذائع، وأثر كبير على المنطقة كلها. وقد نجح في مسعاه بفضل استعداده الشخصي، فنال إعجاب أعدائه قبل أصدقائه، وممن كان معجبا به من أعدائه الخليفة العباسي المنصور الذي أطلق عليه لقب «صقر قريش»، اعترافا بمقدرته الفذة وإقدامه منقطع النظير. وما قام به حين أنشأ دولته في الأندلس، على الرغم من الظروف الصعبة التي أحاطت به وهي ظروف اكتنفت بقايا الدولة الأموية كافة. وكان قيام هذه الدولة الأندلسية في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان لسنة 138هـ، وهو يوافق اليوم العشرين من شهر فبراير لسنة 756م، وقد استمرت هذه الدولة عدة قرون وتتابع على قيادتها عدد من الملوك والأمراء.

ولقد كانت فترة الاستقرار التي شهدتها الأندلس في أعقاب نشأة الدولة الأموية فيها سببا من أسباب نمو البلاد في مختلف المجالات. وهذا مما يلاحظ حتى اليوم في الآثار المعمارية العظيمة، وفي التراث العلمي والثقافي المتمثل في الكتب التي ألفها الأندلسيون وفي الفنون المختلفة التي سادت في ذلك الزمان.

واستمرت الأندلس تتحفنا بجميل الأشعار مما قاله شعراؤها أو ممن أقام بها من الشعراء الذين لم يكونوا من أهلها، فنحن إلى يومنا هذا نتذكر ونقرأ شعر أبي القاسم محمد بن هاني الأندلسي، المولود في إشبيلية سنة 326هـ (937م)، وشعر أبي إسحاق إبراهيم بن عبدالله بن خفاجة الأندلسي، الذي ولد هناك في سنة 450هـ (1058م)، وكان شاعرا ذا مكانة مرموقه بين شعراء عصره، وهو الذي قال لقومه:

يا أهل أندلس لله دركم

ماء وظل وأنهار وأشجار

ما جنة الخلد إلا في دياركم

ولو تخيرت هذي كنت اختار

ونقرأ – أيضا – شعر لسان الدين بن الخطيب المولود في الأندلس سنة 1313م والمتوفى في سنة 1374م في المغرب، ومن الجدير بالذكر أن شعره مشهور حتى وقتنا هذا ومن ذلك الموشحة الشهيرة التي غنتها الفنانة فيروز، وهي:

جادك الغيث إذا الغيث هَمَى

يا زمان الوصل بالأندلس

لم يكن وصلك إلا حلما

في الكرى أو خلسة المختلس

إذ يقود الدهر أشتات المنى

تنقل الخطو على ما يُرسم

زفرا بين فرادى وثنى

مثلما يدعو الوفود الموسم

والحيا قد جلل الروض سنا

فثغور الزهر فيه تبسم

إلى آخرها..

أما الشعراء الذين أقاموا في الأندلس، فإن منهم من كانت إقامته في الزمان العربي هناك. ومنهم من تأخر في ذلك، فكانت إقامته في العصر الحديث. ويكفينا أن نذكر اثنين من الشعراء الذين اتصفوا بهاتين الصفتين، وذلك كما يلي:

– نذكر من الماضين شاعرا امتد به ليل العاشقين حتى ظنه لا ينتهي أبدا، وأن الصباح لن يطل عليه. وقد تساءل وهو في قمة ضيقه: أليس لهذا الليل من آخر، وهل سيمتد حتى قيام الساعة يوم القيامة؟

فيرد على لسانه قوله:

يا ليل الصب متى غده

أقيام الساعة موعده

إلى أن يكمل قصيدة طويلة يشكو فيها حزنه، ويبث همه.

هذا هو: علي بن عبدالغني الحصري الشاعر والكاتب المشهور، الذي عاش في القيروان، ثم انتقل إلى الأندلس في منتصف المائة الخامسة للهجرة، ونال مكانة تليق به بين ملوكها وأمرائها، وشهرة بين أهلها. له مؤلفات بعضها مطبوع، منها: ديوان يجمع شعره.

كانت القصيدة التي قدمنا مطلعها قبل قليل من أشهر ما قاله من شعر، ولقد صارت لها شهرة واسعة. وهو يصف فيها حاله حين يمضي الليل ساهرا ينتظرا طلوع الصباح، ويذكر حبيبا تمادي في هجره، وتركه يمتلئ أسفا حتى كاد يرديه قتيلا، وقد كان في ليله الطويل الذي ذكره في قصيدته على حال فيه:

رقد السُّمار فأرَّقه

أسفٌ للبين يردده

فبكاه النجم ورق له

مما يرعاه ويرصده

وهو:

كلف بغزال ذي هيف

خوف الواشين يشرده

ثم يقول:

نصبتْ عيناي لهذا الغزال شركا حتى أتمكن من اصطياده – وكان ذلك في أثناء نومي – وكان الغزال تمثالا منتصبا للفتنة والجمال، فاق الحسان جميعا في ذلك. وعلى الرغم من محاولتي اصطياده، فإنه اصطادني بسهم أطلقه من مقلتيه الجميلتين فأراق بذلك دمي، ومع ذلك – يقول الحصري – فإنني لا ألومه على أن قتلني، فإنما قتله لي كان بعينيه ولذا فأنا أقول:

كلا لا ذنب لمن قتلت

عيناه ولم تقتل يده

٭ ٭ ٭

ثم يواصل هذا الشاعر وصف ما جرى له مع من أحب، فسهر الليل من أجله، واعتبره قاتلا له بنظرة من عينيه، فيقول:

إن من قتلني يجحد فعلته هذه، ويدعي أنه لم يقتلني، ولكن دليلي على ما أقوله واضح في خديه اللذين يصطبغان باللون الأحمر، فهذا اللون هو لون دمي الذي سفكه. ثم تركني قتيل الهوى. ومع ذلك فأنا التمس له العذر فيما فعل بي. فهو – أي الشاعر – يرى أن هذا المحبوب لم يتعمد قتله. وهو يعيذه بالله أن يفعل ذلك:

يا من جحدت عيناه دمي

وعلى خديه تورُّده

خداك قد اعترفا بدمي

فعلام جفونك تجحده

إني لأعيذك من قتلي

وأظنك لا تتعمده

وهذه السماحة معروفة – من قبل – عند الشعراء المحبين الذين كانوا يلتمسون الأعذار لأحبابهم مهما صدر منهم. ألم يقل الشاعر كثير عزة في معرض ذكره لما حدث له من عزة التي أحبها:

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

وحين يختم القيرواني قصيدته، فإنه يختمها بصوت عال أشبه بالهتاف، فهو يظهر بهتافه حلاوة الوصل وعذوبته، ويشير إلى أن ما يكدره هو أن الأيام هي التي تفعل ذلك، ويكون تكديرها بالفراق وبالهجران، وهو لهذا السبب يصرخ قائلا:

ما أحلى الوصل وأعذبه

لولا الأيام تنكده

بالبين وبالهجران فيا

لفؤادي كيف تجلده؟

٭ ٭ ٭

وفي عصر متأخر رحل أمير الشعراء أحمد شوقي إلى الأندلس، وأقام هناك زمنا ابتدأ بسنة 1914م، ولم يعد إلى وطنه إلا بعد مرور ما يزيد على السنوات الأربع. وقد كان السبب في ذلك أنه نفي من وطنه: مصر، بسبب هجائه للمحتلين البريطانيين لبلاده آنذاك، وهم الذين قاموا بنفيه.

وقد أمضى هذا الزمن هناك، وهو يتذكر بلاده ،ويشتاق إليها، ويتخيل مغانيها التي شهدت طفولته وشبابه. ثم يضيف إلى ذلك وصف الأندلس، ويذكر تاريخها، وما فيها من آثار تدل على مقدرة أهلها السابقين الذي كان هذا الشعر يرى أعمالهم وهي تشهد لهم، وقد تركوا في كل مكان يطرقه أثرا يدل على ما تميزوا به ويرعوا فيه من إنجاز.

كان مكوث أحمد شوقي في الأندلس – آنذاك – سببا من أسباب تفرغه للإطلاع على الآثار الأندلسية المشاهدة والمكتوبة، وفرصة لإنشاد عدد لا بأس به من القصائد المستوحاة من ذلك الجو البديع الذي وجده، فأتاح له فرصة التعبير عن كل ما يجول بخاطره من ذكريات الماضي، ومن حنين إلى وطنه ومن مجاراة لقصائد بعض الشعراء الذين كان له اهتمام بالأجواء التي وجدها في الأندلس. فهو هناك قد عارض قصيدة ابن زيدون الأندلسي التي كان مطلعها:

اقرأ ايضاً
حزب الله يفاجئ إسرائيل في عقر دارها؛ 5 نقاط هامة توضح التفوق الاستخباراتي لحزب الله!

أضحى التنائي بديلا من تدانينا

وناب عن طيب لقيانا تجافينا

ألا وقد حان صبح البين صبحنا

حيْنٌ فقام بنا للحين ناعينا

مَن مُبلِغُ المُلبسينا بانتزاحهمُ

حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا

وهي – ولا شك – قصيدة جميلة، تلفت الأنظار، فلا عجب أن يهتم أحمد شوقي بها، ويقوم بمعارضتها بقصيدة له نالت هي الأخرى إعجاب متابعي شعره، يقول:

يا نائح الطلح أشباه عوادينا

نشجى لواديك أم نأسى لوادينا

ماذا تقص علينا غير أن يدا

قصت جناحك جالت في حواشينا

رمى بنا البين أيكا غير سامرنا

أخا الغريب وظلا غير نادينا

كلٌّ رمته النوى ريش الفراق لنا

سهما وسلَّ عليك البين سكينا

وهذه بداية جميلة لقصيدته، تخيل فيها نفسه وهو يتحدث إلى طائر كان يحط مغردا فوق شجر الطلح في واد من أودية الأندلس فيقول له أنت مثلي، فكلانا يشعر بالأسى، ولا ندري أنحن نأسى لما حل بواديك الذي خلا من أهله الأوائل، أم لوادينا الذي ابتعدنا عنه قسرا وصار الشوق يملؤنا حسرة بسبب فراقه؟

٭ ٭ ٭

ومن قصائد أمير الشعراء الرائعة التي جاءت في هذه الفترة التي قضاها في الأندلس القصيدة السينية التي عارض بها قصيدة الشاعر البحتري، وهو أحد شعراء العصر العباسي المجيدين، وكان مطلعها:

صنت نفسي عما يدنس نفسي

وترفعت عن جدا كل جبس

وتماسكت حين زعزعني الدهـ

ر التماسا منه لتعسي ونكسي

بلغ من صبابة العيش عندي

طففتها الأيام تطفيف بخسوفيها يصف البحتري إيوان كسرى الشهير الذي لا تزال أطلاله تشهد على ما كان عليه في العصر الذي قال فيه الشاعر قصيدته، وكان مما قاله فيه:

عُمِّرت للسرور دهرا فصارت

للتعزي رباعهم والتأسي

فلها أن أعينها بدموع

موقفات على الصبابة حبس

أما شوقي فإنه يقول:

اختلاف النهار والليل يُنسي

اُذكرا لي الصبا وأيام أُنسي

وصفا لي ملاوة من شباب

صُورت من تصورات ومس

عصفت كالصبا اللعوب ومرت

سنة حلوة ولـــــــذة خلس

ثم يشير إلى ما قاله البحتري عن إيوان كسرى، مبينا أن له في الأندلس ما يشغل باله عن ذلك الإيوان، فمشاهداته هناك تنطلق إلى أماكن عمرها قومه، فكان مما قاله مذكرا بما كان للأمويين في دولتهم الأولى في المشرق، ثم ما حدث لهم، وما وجده من آثارهم في الأندلس، فيقول:

أين مروان في المشارق عرش

أموي وفي المغارب كرسي؟

سقمت شمسهم فرد عليها

نورها كل ثاقب الرأي نطس

ثم غابت وكل شمس سوى هاتيك

تبلى وتنطوى تحت رمس

وعظ البحتري إيوان كسرى

وشفتني القصور من عبد شمس

ومن هنا تذكر شوقي أيام الأندلس الرائعة. وماضيها الخالد، ورجالها الأفذاذ من أبطال الحروب، ورجال المعارك، والعلماء والأدباء والشعراء، وتذكر حضارتها الخالدة، وطبعتها بما فيها من بساتين ورياض تعجب الناظرين. ثم اتجه إلى وطنه: مصر وقد كان منذ البداية يتحدث إلى اثنين من أصحابه، طالبا منهما أن يذكرا له أيام صباه، وأيام شبابه التي شهد فيها كل عجيب، ثم عصفت بها الرياح ومرت كأنها حلم نائم.

ويريد منهما شيئا آخر عبر عنه بقوله:

وسلا مصر هل سلا القلب عنها

أو أسا جرحه الزمان المُؤسّي

كلما مرت الليالي عليه

رق والعهد في الليالي تُقسّي

مستطار إذا البواخر رنت

أول الليل أو عوت بعد جرس

تذكره هذه البواخر وطنه، وتثير أشجانه، وتحرك ذكرياته كلما انطلق صوتها، فهي تُنْبؤه بتحركها إلى مصر حيث مولده وبداية حياته التي يعيش في الأندلس محروما منها – بل هو يعبر عن شعوره هذا بما يدل على الحرقة التي يشعر بها المحروم مثله إذ يقول مخاطبا السفينة:

نفسي مرجل وقلبي شراع

بهما في الدموع سيري وأرسي

واجعلي وجهك الفنار ومجرا

ك يد الثغر بين رمل ومكس

وطني لو شغلت بالخلد عنه

نازعتني إليه في الخلد نفسي

وهذا الألم الذي يحس به ألم مسيطر طال أمده في نفسه ولم تبد له منه بادرة زوال. فالحرمان من الوطن من أشد ما يكون على نفوس أبنائه، ولذا قال:

أحرام على بــــلابله الــــدو

ح حلال للطير من كل جنس

٭ ٭ ٭

ما ذكرناه عن أمير الشعراء أحمد شوقي يعيدنا إلى ما بدأنا به من حديث عن قصيدته التي عارض فيها قصيدة الحصري القيرواني التي أشرنا إليها في بداية هذا الفصل، وهي التي كان مطلعها:

يا ليل الصب متى غده

أقيام الساعة موعده

لقد جاءنا هذا الشاعر المبدع بقصيدة لا تقل روعة عن القصيدة الأولى إن لم تزد عليها في ميزان الإبداع والإتقان، تبدأ – هي الأخرى – بذكر السهد، وجفاء المرقد، كما فعل القيرواني، ولكنها سرعان ما تتحول إلى عرض صور أخرى من صور القول الجميل.

يبدأ شوقي قائلا:

مضناك جفاه مرقده

وبكاه ورحم عوده

حيران القلب معذبه

مقروح الجفن مسهده

ويواصل وصف الحال التي كان عليها مبينا أن تأوه يلفت إليه الحمام (الورق)، وأن تنهده يذيب الصخر. يمضي ليله في مناجاة النجم ومتابعة سيره، ويحيي الليل فلا ينام فيه كما يفعل باقي الخلق. بل إن ما يصدر منه من تأوهات إنما يصدرها لكي يعلم الحمائم مالا تستطيع فعله بدونه:

يستهوي الورق تأوهه

ويذيب الصخر تنهده

ويناجي النجم ويتعبه

ويقيم الليل ويقعده

ويعلم كـل مطـوقة

شجنا في الدوح تردده

وانتشرت قصيدة أحمد شوقي هذه في الآفاق العربية منذ أن قالها، وساعد على انتشارها قيام الفنان الشهير محمد عبدالوهاب بتلحينها وغنائها، فمنحها بذلك مزيدا من الانتشار بين الناس، وما حببها إلى النفوس أنه صاغ لها لحنا يثير الشجن في النفوس، فيبقى في الأذهان، ومن أجل ذلك فهو – إلى يومنا هذا – لحن باق في قمته العالية، نسمعه فلا نمل سماعه.

وكما ذكر الحصري القيرواني السهد وانعدام النوم بسبب ما كان يعانيه من هجران من يحب، وجدنا أمير الشعراء وهو يسير على هذا النمط، فيعبر عن إحساسه بما يشغل باله، ويجعله مسهدا محروما من نوم الليل، بل هو مضني يشفق عليه صحبه الذين كانوا يعودونه ضنا منهم أنه يعاني من مرض عضوي، ولكنه يصرح بأنه ليس كذلك، وأنه لا يعاني مثل هذا المرض، بل هو حيران القلب، متعب الروح، قرحت الدموع جفنية، وأضر به طول السهد، وألم الفراق.

إنه يخاطب من ألحق به هذا الضنى فيقول له: مضناك قد جفاه مرقده، فالسهر لا يترك له مجال الاستقرار. وإن هذا المضنى بسبب بعدك وهجرانك قد لفت تأوهه الحمائم إليه، فأثارهم حتى أمعن في هديلهن. وقد أحرقه الوجد، حتى لم يبق منه إلا الرمق القليل..

لقد تركتني يا هاجري أناجي النجم، وأسهر الليل، وأعلم الحمائم كيف تردد سجعها فوق الغصون.

ويمضي شوقي على هذه الوتيرة إلى أن يأتي إلى وصف الحبيب فيقول:

الحسن حلفت بيوسفه

والسورة إنك مفرده

قد ود جمالك أو قبسا

حوراء الخلد وأمرده

وتمنت كل مقطعة

يدها لو تبعث تشهده

ثم ينكر مقدرة الوشاة على التفريق بينه وبين من يحب، فقد تمكن الهوى من قلبه حتى صار لا يتأثر بقول عاذل أو لائم.

بيني في الحب وبينك ما

لا يقدر واش يفسده

والشاعر يعجب للعاذل الذي يحثه على السلوان، وعلى نسيان من يحب وينسى ما هو فيه من مؤثرات المودة، ومن آثار الشوق. بل إنه لا يستطيع أن يصغى إلى ما يقوله أي عاذل، فهو يوصد في وجهه الأبواب التي يريد فتحها:

ما بال العاذل يفتح لي

باب السلوان وأوصده

ويقول تكاد تجن به

فأقول وأوشك أعبده

وأكثر من ذلك فإن:

ناقوس القلب يدق له

وحنايا الأضلع معبده

وإذا كان هذا المحبوب يظن أن الشاعر سوف يصغي إلى أقوال الوشاة، ويغلق الأبواب أمام العودة التي يتمناها المحب، فإن الشاعر يتوجه إليه مقسما على الوفاء له بالمحبة، وعدم الاستماع إلى العذال والحساد الذين يحاولون التفريق بينهما، وبعد تكرار هذا القسم نراه يقول:

ما خنت هواك ولا خطرت

سلــــوى بالقلـــب تبــــرده

وبهذا البيت تنتهي هذه القصيدة الجميلة التي صاغها أمير الشعراء أحمد شوقي على نمط قصيدة الشاعر الحصري القيرواني الذي عاش زمنا من حياته في الأندلس، كما عاش أحمد شوقي بها وفق ما ذكرناه فيما مضى.

٭ ٭ ٭

عرض د.زكي مبارك هاتين القصيدتين عرضا رائعا، ووازن بينهما من حيث الصياغة والمعاني والأفكار في كتابه المهم «الموازنة بين الشعراء»، وهو كتاب فريد في هذا المجال الذي يقارن بين القصائد المتشابهة، وهو جدير بالقراءة، ومن حسن الحظ أنه عاد إلينا بعد انقطاع حين أعادت نشره مؤسسة عبدالعزيز البابطين للإبداع الشعري، فصار قريبا إلى أيدي القراء الذين سوف يجدون فيه فائدة جليلة.

 

 

 

 

مصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى