تتبنى الكويت منذ عقود مبدأ «الكويت أولاً» الذي يعني التركيز على المصلحة الوطنية وحماية سيادتها. ومن أهم بنود هذا المبدأ هو استقلال القرار السياسي، أي قدرة الكويت على اتخاذ قراراتها دون تدخل خارجي، وتحقيق التوازن بين الحياد في الشؤون الدولية وحماية سيادتها.
فعلى سبيل المثال، أكدت صحيفة كويتية بمناسبة ذكرى الاستقلال أن الوثيقة الموقعة في 19 يونيو 1961 أنهت الحماية البريطانية وأعلنت «بناء دولة كاملة السيادة مستقلة القرار». وتأسس هذا المبدأ منذ الاستقلال، حيث كانت الكويت دولة ناشئة تسعى لبناء كيانها بحرية القرار وتحمل مسؤولياتها بالكامل.
الحياد الإيجابي في السياسة الخارجية للكويت
تميل السياسة الخارجية الكويتية إلى التوازن والحياد الإيجابي. والحياد الإيجابي يعني عدم الانحياز لأي قوة إقليمية أو دولية، مع الانخراط الفاعل في مواجهة التحديات عبر الدبلوماسية والمبادرات البناءة. فقد وجدت الكويت أن مصالحها تقضي بالمحافظة على علاقات طيبة مع الجميع وعدم إثارة النزاعات، خاصةً أنها بلد صغير محاط بكيانات كبيرة. وأشار بحث أكاديمي إلى أن «من أهم مرتكزات السياسة الخارجية» الكويتية كان التوازن والحياد الإيجابي، بينما تُعَد الوساطة والمساعدات الاقتصادية أدوات رئيسية لتحقيق ذلك.
في ضوء هذا النهج، لعبت الكويت دور الوسيط في كثير من النزاعات الإقليمية. من الأمثلة البارزة:
- وساطة في أزمة اليمن (1960s): قدمت الكويت دوراً مهماً بتنسيق مساعي صلح بين مصر والسعودية لحل النزاع اليمني في منتصف الستينات.
- أزمة البحرين (1970-1971): شاركت الكويت في الجهود التي أدت لإجراء استفتاء بحرين عام 1971 حول مستقبلها، وعبرت عن دعمها لحق الشعب في تقرير مصيره.
- أيلول الأسود (1970): بادرت الكويت لمحاولة التهدئة بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في نوفمبر 1970 (أيلول الأسود) بجهودها الدبلوماسية.
- صراعات يمنية وخليجية: عملت الكويت على حل النزاع بين اليمنين الشمالي والجنوبي عام 1972، والأزمة بين عمان واليمن عام 1984، وسعت أيضاً إلى تسوية النزاع بين باكستان وبنغلاديش في أوائل السبعينات.
هذه الأمثلة تظهر حرص الكويت على إجراء حلول سياسية للنزاعات، بما يعكس مبدأ الحياد الإيجابي. فهي تقدم المساعدة وتدعم المبادرات دون تفضيل طرف على آخر، مؤمنةً بأن ذلك يصون استقلال قرارها السياسي ويخدم سيادتها.
استقلال القرار السياسي في المواقف الكويتية
منذ الاستقلال حرصت الكويت على استقلال قرارها السياسي في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. فالكويتيون يؤمنون أن الدول الصغيرة خاصةً يجب أن تحمي حريتها في صنع القرار لكي تحفظ أمنها واستقرارها.
لذلك نجد الكويت مثلاً في الستينات والسبعينات لا تنضم إلى أحلاف أو معسكرات عالمية، بل تكتفي بالمشاركة في حركات التضامن العربي والإسلامي وفق رؤيتها الخاصة. فعلى سبيل المثال، ذكرت دراسة أن الكويت «لم تكن مهتمة بإنشاء تحالفات لضمان الحماية» قبل الغزو العراقي عام 1990، وكانت تقدم مساعدات تنموية دون ربطها بشروط سياسية.
هذا الموقف يُظهِر ثقة الكويت في اعتماد دعم الآخرين طوعاً دون دفع مقابل سياسي، مما يعزز استقلال قرارها السياسي وسيادتها الوطنية.
وبالمثل، كانت الكويت حريصة على ألا تفرض عليها أي دولة أجنبية سياسات تمس استقلال قرارها. فعندما دعا الرئيس المصري جمال عبد الناصر إلى حملة «الوحدة الفتية» أو قرار الانضمام إلى معسكرات ما بعد الحرب العالمية، لم تنخرط الكويت في خلاف مع السعودية أو العراق وفضلت سياسة عدم الانحياز.
بل استخدمت أموالها في دعم الأمة العربية بشكل عام، دون أن تلتزم بشروط من أي معسكر. وقد أكدت الكويت دائماً أنها ستستفيد من التعاون الدولي عندما يخدم مصالحها، لكنها ترفض الدخول في تبعية لأي قوة. وقد أثمر هذا عن دور سياسي للكويت يفوق حجمها الجغرافي ووزنها السكاني، ويُسهم في حماية سيادتها.
من الحياد إلى إنشاء مجلس التعاون
مع مرور الزمن، أدركت الكويت أن تحقيق الأمن لا يعني البقاء منزوعة عن كل تحالف. فعند نشوب الحرب العراقية–الإيرانية (1980-1988) ومع تصاعد النفوذ الإقليمي، كان لزاما على الكويت تعزيز أمنها بطريقة ما و مع الحفاظ على استقلال القرار السياسي.
فكانت المبادرة الكويتية لتأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981 إسهاماً استراتيجياً في ذلك. فقد رأى حكام الكويت أن استقلال القرار السياسي لا يتناقض مع التنسيق مع الجيران لحماية المصالح المشتركة.
وهكذا ولدت فكرة اتحاد خليجي يقف في وجه أي تهديد. وعملت الكويت في تلك المرحلة على دعم الدول الشقيقة دون اشتراط مكاسب سياسية مباشرة، مواصلة تقديم القروض والمساعدات الإنمائية دون ربطها بشروط سياسية.
هذه الخطوات لم تخلُ من حرص على التوازن: فالكويت إلى اليوم تحاول التعامل بحكمة مع كل دول منطقة الخليج دون الدخول في خلافات مفتوحة.
ومن العوامل التي تسهل هذا النهج أن الكويت محاطة بثلاثة منافذ قوة كبرى (العراق وإيران والسعودية)، ما يوجب عليها الحفاظ على علاقات جيدة مع الجميع. وقد أوضحت دراسات أن الكويت تتبع سياسة «عدم وجود أعداء»، وتتجنب المواجهة مع أي طرف من قوى المنطقة. وبذلك استطاعت التنقل بين الانضمام إلى مجلس التعاون واحترام سيادة دوله الأعضاء، مع المحافظة على مرونتها في اتخاذ القرارات داخلياً.
تجربة الغزو العراقي وتحول المسار
شكل غزو العراق للكويت في 2 أغسطس 1990 اختباراً حقيقياً لـ استقلال القرار السياسي الكويتي. إذ انتهكت قوة عسكرية كبىءً سيادة الكويت بالقوة، فاضطرت البلاد إلى استدعاء الحلفاء الدوليّين لإنقاذها. لكن من الناحية السياسية، حافظت الكويت على موقفها الثابت القائم على الشرعية الوطنية.
فقد كان لدى قادة الكويت وقتها مثل الشيخ صباح الأحمد وقيادات الدولة حرص شديد على حشد التأييد العربي والدولي بسرعة. وقد نقلت وسائل الإعلام عن الجزيرة أن المسؤولين الكويتيين «أدوا دوراً محورياً في حشد التأييد العربي الرسمي والشعبي، الذي كان له فيما بعد الكلمة الفصل في كسب تأييد المجتمع الدولي المطلق لتحرير الكويت».
وفي خلال ذلك الوقت، أكدت القيادة الكويتية على شرعية النظام السياسي الكويتي المنتخب، ورفض أي تدخل خارج صلاحياته في صنع القرار. وكانت رسالتها واضحة: لن تقبل بأي تراجع عن سيادتها أو استقلال قرارها.
وبعد التحرير، أشادت الكويت بالدول التي وقفت معها وتعهدت بمنحها فرصاً أكبر في مشاريع إعادة الإعمار، في حين لم تنسَ مواقف بعض الدول التي لم تدعمها. وقد ساهم هذا الموقف في ترسيخ فكرة أن الكويت تُقدِّم مصالحها الوطنية أولاً، فحصلت على دعم عملية التنمية المحلية وحماية سيادتها من أي وصاية خارجية.
الكويت اليوم: حماية السيادة بغض النظر عن التحالفات
تبقى مسألة استقلال القرار السياسي راهنة في الكويت مع تطورات العصر. في السنوات الأخيرة حاولت البلاد الحفاظ على سياسة خارجية متزنة. فمن جهة، استمرت في العمل مع شركاء اقتصاديين وعسكريين، مثل الحفاظ على تحالف دفاعي ضمن مجلس التعاون ودور في حماية أمن الخليج، وفي نفس الوقت لم تقطع علاقتها بأحد من دون حاجة ملحة. ففي أزمة الخليج 2017 مثلاً، اختارت الكويت طريق الوساطة والحوار بدل المشاركة في الحصار، محافظة بذلك على تقليد الحياد الإيجابي وحماية سيادتها.
أيضاً في الملفات العربية والإقليمية، تظل الكويت صريحة في التأكيد على أن قرارها السياسي سيبقى من صنعها وحدها. فهي تحرص على أن تشارك في مبادرات دبلوماسية لإطفاء النزاعات، لكنها لا ترضخ للضغوط الخارجية عندما تتعارض مع المصلحة الوطنية.
وقد حث القادة والمثقفون باستمرار على ضرورة عدم تأثر السياسات المحلية بالانقسامات الدولية، والتركيز على مصلحة «الكويت أولا» و استقلال القرار السياسي. وبناء عليه، تدرب الكوادر الدبلوماسية على التعامل مع الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية من موقع يُراعِي مصالح الكويت دون التخلي عن حيادها المبدئي.
التوازن والحرية في صنع القرار
باختصار، يظهر التاريخ الكويتي الحديث توازناً بين الحياد الإيجابي والحفاظ على السيادة الوطنية عبر استقلال القرار السياسي. في كل موقف أو أزمة، حاولت الكويت أن تضع مصالحها فوق كل اعتبار.
فالحياد الإيجابي جعلها وسيطاً مقبولاً ومؤثراً في العديد من القضايا الإقليمية، بينما حافظت في الوقت ذاته على الحق في اتخاذ قراراتها السيادية. وفي ضوء شعار «الكويت أولاً»، ستبقى الأولوية للأمن الوطني واستقلال القرار السياسي عند التعامل مع أي تحديات مستقبلية، مؤمنةً بأن هذه هي الخطوة الأضمن لحماية السيادة وضمان رفاهية شعبها.
المصدر: كويت24 + عدة مواقع و كتب أخرى