السياسة الكويتية تجاه ايران/ منذ أكثر من أربعة عقود، والمنطقة الخليجية تعيش على وقع التوتر المتجدد مع ايران. لكن مع تغير موازين القوى، وتبدل السياقات الإقليمية والدولية، بدأت بعض العواصم الخليجية بإعادة ضبط بوصلتها، مدركة أن العداء المستمر مكلف، وأن الحوار قد يكون بديلا عقلانيا.
ومع هذا التحول، برز سؤال مشروع: لماذا لا تزال السياسة الكويتية تجاه ايران جامدة، متحفظة، حذرة إلى درجة التردد، حتى بعد أن غيّرت السعودية نفسها نهجها وفتحت باب التفاهم مع طهران؟
السياسة الكويتية تجاه ايران؛ بين الثوابت والاستجابة للمتغيرات
من يتابع السياسة الكويتية تجاه ايران سيلاحظ أنها لا تزال محكومة بموروث سياسي قديم، قائم على مبدأ تفادي المغامرات، والحفاظ على توازن دقيق بين أطراف متصارعة. هذا النهج كان مفهوما في فترات اشتداد الاستقطاب الإقليمي، خاصة أثناء الحروب والصراعات الطائفية التي عصفت بالعراق وسوريا واليمن.
لكنه اليوم، ومع الانفتاح السعودي الإيراني وعودة العلاقات بين طهران والرياض، يبدو وكأن الكويت لم تلتحق بعد بالركب الجديد.
فهل يعكس هذا التردد قرارا سياديا مدروسا؟ أم أن ما نراه هو استمرارية غير معلنة لتوجهات سابقة، ربما لم تعد مناسبة للحظة الحالية؟
الرياض تغيّر، والكويت تنتظر!
في مارس 2023، صدم الاتفاق الإيراني السعودي بوساطة صينية الكثيرين، واعتبر نقطة تحول في المشهد الإقليمي. لم يكن مجرد مصافحة رمزية، بل مقدمة لسلسلة من الخطوات الفعلية نحو تخفيف التوترات، واستعادة التوازن في ملفات عديدة. إيران، من جهتها، أبدت استعدادا للانخراط في علاقات أكثر انفتاحا، حتى مع دول طالما اعتبرتها قريبة من واشنطن.
ومع ذلك، ظلت السياسة الكويتية تجاه ايران تدور في مساحة رمادية: لا قطيعة معلنة، ولا تقارب حقيقي. فهل يعقل أن تبادر الرياض بالتقارب وتبقى الكويت في موقع الحذر؟ وإذا كانت السعودية، وهي التي خاضت مواجهات مباشرة مع طهران في أكثر من ملف، قد قررت تجاوز خلافاتها، فما الذي يمنع الكويت، ذات التوجه الدبلوماسي المعتدل، من اتخاذ خطوة مماثلة؟
الفرصة الضائعة!
إيران ليست فقط خصما إقليميا. إنها دولة جارة، كبرى، لها حدود بحرية ومصالح استراتيجية في الخليج، ويعيش في الكويت جزء من مواطنيها ممن تجمعهم روابط تاريخية وثقافية بطهران. تجاهل كل هذه المعطيات بحجة الحذر لا يبدو خيارا استراتيجيا، بل أقرب إلى تبديد لفرص حقيقية.
سياسة الكويتية تجاه ايران، في شكلها الحالي، لا تخدم سوى استمرار الجمود. بينما يمكن للكويت أن تلعب دورا مهما في الوساطة أو إعادة بناء الجسور، كما فعلت سابقا في ملفات عربية حساسة. الكويت ليست في موقع الطرف الضعيف، بل في موقع الطرف الحكيم القادر على التقريب لا التبعية.
الاستقلال لا يعني العزلة!
ربما تخشى الكويت من أن يُفهم أي تقارب مع ايران على أنه خروج عن الإجماع الخليجي. لكن الحقيقة أن هذا “الإجماع” لم يعد قائما على خط واحد. الإمارات والسعودية والبحرين وحتى سلطنة عمان تبنّت سياسات خارجية متباينة، خاصة بعد أزمة قطر. فلماذا تظل الكويت متمسكة بسياسة حذرة قديمة، بينما الواقع يتغير حولها؟
في نهاية المطاف، يجب أن تقوم الساسة الكويتية تجاه ايران على أساس مصالح الكويت أولا، لا على افتراض أن كل تقارب مع طهران يُغضب الجار الكبير. فالسعودية نفسها بدأت صفحة جديدة مع ايران، وفتحت قنوات تواصل أمني واقتصادي، وتستعد لمزيد من الخطوات المستقبلية. فلماذا لا تتحرك الكويت بخطى مدروسة مماثلة، تحفظ توازنها ولا تقطع الجسور؟
هل نحن أمام تردد سياسي أم فراغ استراتيجي؟
من المؤسف أن تكون سياسة الكويتية تجاه ايران رهينة لتقديرات قديمة، أو لحسابات داخلية تخشى من اتهامات بالتراخي أو المحاباة. لكن السياسة الخارجية لا تُدار من منطلق الخوف، بل من رؤية وطنية واضحة. والحياد لا يعني الجمود، كما أن الاستقلال لا يعني الانعزال.
إذا أرادت الكويت أن تظل صاحبة دور ومكانة في الإقليم، فذلك لا يتحقق بمجرد الاكتفاء بالمواقف المتحفظة أو البقاء على هامش التحولات الكبرى. الدور السياسي الحقيقي لا يُمنح، بل يُصنع باتخاذ قرارات جريئة في اللحظات المفصلية.
والمنطقة الآن تشهد تحولات عميقة، لا فقط في خارطة التحالفات، بل في طريقة فهم التوازنات نفسها. لم يعد التردد فضيلة، بل بات في كثير من الأحيان عبئا يُفسر على أنه غياب للبوصلة أو افتقار لرؤية مستقلة.
إن مراجعة الخيارات السياسية ليست دليلا على الضعف، بل علامة على النضج السيادي والقدرة على التكيف مع معطيات متغيرة. وما دامت عواصم كبرى كالسعودية والإمارات قد أعادت النظر في مقارباتها تجاه طهران وبدأت فعلا بترميم علاقاتها معها، فإن الإبقاء على ذات المسافة القديمة لم يعد مبررا ولا مفهوما.
ليس المطلوب من الكويت أن تتبنى سياسات الآخرين، ولكن من غير المعقول أن تبقى أسيرة قرارات صيغت في زمن مختلف.
لقد آن الأوان لأن تكون السياسة الكويتية تجاه ايران انعكاسا حقيقيا لمصلحة وطنية مستقلة، تُبنى على أسس من السيادة والبراغماتية، لا أن تظل ظلا باهتا لتقلبات خارجية أو حسابات لا تأخذ أولويات الكويت بعين الاعتبار.
أن تبني الدولة الصغيرة سياستها الخارجية على قاعدة احترام الذات لا يعني أنها تغامر، بل أنها تعي أن الاستقلال السياسي لا يُختزل في رفع العلم، بل يُمارس في كل قرار خارجي، مهما بدا صغيرا.
المصدر: كويت24